ويسألونك عني

خديجة بن عادل

8/12/20231 min read

الوقت كأداة تعبيرية عن استلاب الذات في ديوان "ويسألونك_عني".

جوتيار تمر / إقليم كوردستان العراق

24-7-2023

الانسان كائن لا يصدّق، يمكنه أن يحول كل شيء الى مسار للتعبير عمّا يخالج نفسه، وفق نسق يتناسب مع صيرورته، وحاجاته، ورغباته، إلّا أنّه في الوقت نفسه يعيش حالة انعدام مع الذات، وذلك ما يجعله يتواجد في التفاصيل المكانية بشكل محسوس، وينخرط بوعي في الفضاءات الروحية بشكل غير مفهوم مثيرًا الدهشة في حلقات الزمن، كأن يخلط الماضي بالحاضر، ويتنبأ باللآتي، ويعيد تشكيل ملامحه من خلال مسارات منفصلة أحيانًا، حين تعيش الذات الاستلاب والاغتراب في نفسها، ومن يتمعن النظر في تبعيات العنوان " ويسألونك عني " سيجد تلك التفاصيل التي نتحدث عنها، باعتبار أن العنوان هو عتبة النص الأولى التي يكمن فيها المفتاح لفك طلاسم النصوص، وفي هذا العنوان نلامس تلك الثنائية المبهمة الصوفية في ظاهرها، والوجودية في مضمونها، حيث الكاف في – يسألونك - ليس إلا وعي بماهية الياء في – عني -، وتلك عتبة مستفزة للذهن منذ الوهلة الاولى، وخلق لصورة متطرفة للذات، حيث أن النص الأول جاء مواكبًا لتلك الحالة الاستفزازية " مُنْذُ عَامٍ أَوْ يَزِيدُ، أَرْكُضُ نَحْوَ الشَّمْسِ "، فالانفعال الداخلي هنا يتجلّى بشكل واضح من خلال رسم صورة تخرج من الأطر السائدة، فالركض نحو الشمس إيحاء وتهويم، من الذات التي تخاطب الاشياء المحيطة بها، ولكنّها بلا شك تخص ذاتها بالحديث لكونها ذات تعاني الاستلاب، فتنفجر الاحاسيس فيها، لتحتاج إلى نقطة تَوَجُّه، ومن معجمها اللغوي تخرج معاني تناسب حالتها الانفعالية " رَغْمَ شَهْقَةِ نَزْوَتِكَ، هَذِي أَنَا المَصْقُولَةُ..وَفِي نَهْرِ السُّؤَالِ..".

وكأنّ الجسد المادي، يسير ببطئ نحو مسارات يمكنه أن يخترق الزمن، ليخلق من تمازجهما ما قد يعطي للذات بعض سكينة وهدوء " فِي صَمْتِ الأَحْزَانِ، يَنَامُ النَّهَارُ مُكْتَحِلًا بِالصَّابِ.."، هي ليست حالة استكانة تامة، لكنها هدنة مع الاسئلة " أَجْنِحَةً بَيْضَاءَ تَمْخُرُ غَوْرَ السُّؤَالِ.."، التي لاتتوانى الانغماس بجسدها المادي في أغوار الزمن، لتوقظ " شَهْوَةَ الزَّمَانِ، بَيْنَ آنٍ وَآنٍ، فَتَبْرُقُ صَوامِعُ الخُلْجَانِ.."، وبتحول بلاغي مهيب نجد الذات تتفنّن في التقاطتها البلاغية، سواءً من الموروث، أو من معينها الداخلي، كما أنها تتحول من المحددات الزمنية العامة، ألى تخصيصات أدق " وَفِي سَبْرَاتِ الشِّتَاءِ... عَبَقُ الأَيَّامِ وَعِطْرُ السِّنِينَ.. أَصْرُخُ فِي وَجْهِ الغِيَابِ.. الآسِنِ دَوِيًّا يُعِيدُ تَنْوِينَ عِنَاقِ الضَّفِيرَةِ، فِي مَوَاقِيتِ الأَمْسِ ، وَاللَّحْظَةِ الأَخِيرَةِ..".

تلك الصور لاتتلاشى من نفسها، كما أنّها لم تأت عبثًا، هي مدركات الذات الساعية للخروج من حالة الاستلاب التامة، والمهيمنة، وذلك من خلال ترسيمات زمنية يمكن عند جمعها، إيجاد منفذ ومفتاح للولوج في تفاصيل لم تستطع الكلمات أن تعبر عنها، وللخروج من دوائر اللاجدوى " لَا جَدْوَى مِنْ أَنَّاتِ نَايٍ، عِنْدَ الفَجْرِ، فَلَا اللَّيْلُ تَزَيَّلَ، وَلَا الصُّبْحُ لَاحَ.. التَّارِيخُ قِلاعٌ مِنْ هِجْرَانٍ.. يُوثِقُنِي حَافَّةَ الجُنُونِ.. "، عند التمعن في المعاني التي سعت الذات الشاعرة لإثباتها ضمن دوائر حالتها، نجد تخصيصًا أدق للزمنية، ووصف أعمق لحالة الذات وتلك الانفعالية التي بدأت بها، بحيث أن مجريات الحدث وفق سيرورته التاريخية توثق ما آلت إليه الذات ضمن حكايات سنين، حتى أصبحت أشبه بقصص المساءات " قَدَّمَ قًصَاصَاتِ أَضْلُعِي لِلْغُرُوبِ.."، على أنها لاتكتفي بتلك السرديات، بل وجدت الذاكرة لنفسها ما يمكنها أن تؤثر على حالة الذات "لَمْ تُخْبِرْنِي يَوْمَهَا أُمِّي..أَنَّ لِلْآهَاتِ تَصَارِيفَ مَهْجُورَةً، وَأَنَّ الدُّمُوعَ مُغَلَّفَةُ الأَوْجَاعِ.."، وفي استمرار تام لحالة الاستلاب تؤكد الذات سعيها وبحثها عن تلك المنافذ " دُمُوعٍ تَبْحَثُ عَنْ مَلاذٍ، وَوَجْهٍ عَارٍ.."، وذلك لأنّ الفجوات باتت تكثر في مكامن الروح، والزمن " أَنْزَلِقُ وَهْنًا، فِي فَجَوَاتِ رُوحِي... وَضَنْكًا، أُجْهِشُ بُكَاءً صَامِتًا... نَدِيمٌ يَعْبُدُ الكُفْرَ جَهْرًا، فَارِسًا عَلَى صَهْوَةِ الغَانِيَاتِ، يُوثِقُ اللَّيْلَ شَمْعاً.." ، إنها بحق حالة مستعصية، والدلالات تمنح صورة التوحش الداخلي " وَأَصْحُو...عَلَى صَبَاحَاتٍ غَرِيبَةٍ..وُجُوهٍ شَائِهَةِ المَلَامِحِ.. تُحَاكِي ذِكْرَيَاتِي المُمَزَّقَةَ..وَأَنْحَنِي فِي مَتَاهَاتِ الخَوْفِ.."، وهكذا نجد الوقت يتسلل إلى الذات أكثر فأكثر، ويحاكي الموجودات التي تدور حولها الحياة بنظرها سواء المتعلقة بالذات نفسها أو الذات ضمن دوائر الانتماء – الوطن- ، مخترقة آفاق الوقت، وباعثة المزيد من الانفلاتات البلاغية، وكأن الذات تأبى الخضوع التام لتلك الموجبات، وتحاول أن تتحرّر من الفرضيات التي يضعها الوقت – التاريخ – أمامها " تَارِيخَ مَوْجٍ أَزْرَقَ.. وَالَّلْيُل يَسْرَحُ جَدَائِلَ المَدَى.. كَيْفَ تَسْأَلُنِي الفَلا..وَبلَاغَةُ الكَوْنِ عَنْ مَوَائِدِ النَّدَى صَائِمَةٌ؟..حُرَّةٌ أَنَا..حِينَ أَسْتَفِيقُ.. مُتَمَرِّدَةٌ أَنَا، إِذْ أَسْتَقْبِلُ لَذَّةَ المَجْهُولِ.. فِي عَيْنَيْكَ مَجَازًا ..وَجَزَائِرًا.."، " وعَبَثُ الرَّصاصِ زادَ عَبَقَ البُرتُقالِ ..هذي(يافا) سامقةٌ في ذاتِ الوَيْلِ.."، على أنّ الذات لاتستطيع التحرر الكامل فتبقى دوائرها الشخصية ممتلئة بالتوحش وذلك ما تظهره الدلالات التي تغرسها في جنبات النصوص " غُرْبَتِي تَقَاسِيمُ خَرَابٍ ، تُمَارِسُ طُقُوسَ الاغْتِرَابِ، أَوْرَاقًا رَمَادِيَّةَ الخَرِيفِ، تُطَارِدُهَا رِيحٌ مِنْ أَوَّلِ.. لِآخِرِ رَصِيفٍ .."، ولأنّها تدرك المعيات الوجودية نجدها تندمج مع الوقائع بكل متغيراتها، وتلتقط البرانيات التي توجب الاستلاب، وتفرض نفسها كحدث لايمكن أن تنأى الذات عن موجباتها " عَلَى الذُّرا العَالِيَاتِ، وَعَلَى تُخُومِ الرَّدَى، كُنْتُ أَتْلُو تَسَابِيحَ الهَوَى، فِي كَفِّي جِلْبَابُ عَذْرَاءَ، يَقْطُرُ نَدَاهُ اخْضِرَارَ الرَّبِيعِ، رِيحٌ عَاتِيَةٌ.. تَنْثُرُ اللَّيْلَ خِيَمُ الكَآبَةِ مَارِقَةً.. تَدُكُّ الأَرْضَ دَكًّا.."، فتصل حتمياتها إلى درجة تصفها الذات الشاعرة على أنها اغتيال للروح " هَصَرَ الكَوْنُ فُؤَادًا كُنْتُ أَمْلِكُهُ ...بِكُلِّ لَحْظَةٍ أَلْفَ مَرَّةٍ.. يُعَكِّرُ فُرَاتَ مَدَائِنِي.. سَيْفُ النِّفَاقِ غَدْرًا.. طَالَ اللَّيْلُ سُهْدًا وَجَمْرًا.. أَصْرُخُنِي.. كَشَقِيَّةٍ فِي سُوقِ الرَّقِيقِ..".

هكذا تتفاعل الذات الشاعرة المنغمسة في حالة الاستلاب بالموجبات الزمنية التي تتراكم وتصبح أعنف كلما توغلنا في مضامين النصوص، وتبعث الاغتراب أكثر كلما أدركنا الحالة التي تعيشها تلك الذات" الغُرَابُ مُتَرَقِّبٌ.. يَبْحَثُ عَنْ وَطَنٍ.. فِي فُوَّهَاتِ الغُرُوبِ.. حَنْجَرَتِي كُثْبَانٌ.. لا تَحْسَبِي السِّنِينَ عِجَافًا.. الأَفْوَاهُ جَوْعَى.. يَا نَبِيَّ اللهِ ؟ لَمْ يَبْقَ بِمُقَلِ الفُقَرَاءِ دُمُوعٌ! أَيْنَكَ يَا نَبِيَّ القُلُوبِ؟.."، تلك النداءات الخارجة من عم الموروثات تنبأ بما يجري في عوالم الذات الجوانية/ الداخلية، وتبرز القيمة التفاعلية التي تمتلكها مع البراني/ الخارجي بكل التفاصيل، وكل المشاهد والمجريات، لذا فإنّنا نجدها من خلال ترصدها للمواسم والزمن تقحم انفعالاتها الذاتية في التفاصيل وكأني بها تعرّي النفس لتوصل الرسالة التي تريد أن تثبتها للعالم الخارجي "نَهَارًا رِماحٌ والنَّهارُ بَراحٌ.. يُضَاجِعُ المَدَى.. يُنَقِّبُ في َدَهالِيزِ ظُلْمَةٍ عَنْ مِفْتاحٍ.. لا المَسَاءاتُ لَبِسَتْ ثَوِبَ الضِّياءِ تُغْرِينِي.. ولا الزَّلّةُ الموءُودَةُ في صَدْرِي تُغْتَفَرُ.. عَجَبًا عَجَبًا لَكَ... كَيْفَ تَزْرَعُ هَذَا الخَرَابَ؟.."، ولأنّها تدرك حجم ما آلت إليها الامور تلجأ للنبوءات علها توقف ذلك المد اللامعقول، ولا تجد غير الأم ( الأم – الارض) نبعاً لنبوءاتها "أُمِّي الكَفُّ الخَضِيبُ،أُمِّي حَقْلٌ خَصِيبٌ.. أُمِّي: يَا أَرْضَ الأَحْرَارِ وَالحَرَائِرِ..قَلْبِي ضَاعَ مَعَ الجِياعِ..يَوْمَ وَدَّعْتُ أُمِّي، وَغَادَرْتُ الجَزائِرَ..وَأْصْبَحَ اسْمِي مُهَاجِرًا.."، حالة الاستلاب هذه لاتتكرر كثيرًا في النصوص الشعرية بهذا العمق، وهذا التأثير، وهذا المخاض، لكنه مخاض طبيعي للذات الشاعرة ، لأنها لاتعيش وقع تأثيرها من خلال الكلمات فقط، إنّما تعيشه واقعًا عيانيًا ملموسًا وكأنّها في صيرورتها تستسلم لمعطياته "أَسْمَعُ نِداءً بَعِيدًا: إِنَّهُ القَدَرُ... إِنَّهُ القَدَرُ.. أَشْبَاحُ الطُّغَاةِ تُوصِدُ أَبْوابَ القَدَاسَةِ بِأَسْرارِ اللَّعْنَةِ.. حِينَ صَفَّقَ اللَّيْلُ لِلرِّيحِ.. وَنَاغَى الظُّلْمَةَ تَسَابِيحًا.. جَنَّ اللَّيْلُ حِينَها يُرَمِّمُ جُرْحًا.. يُوَثِقُ المشَانِقَ مِنْ رَحِمِ الأَرْضِ.. هَا نَحْنُ نَشْهَدُ صَمْتَنَا، مَوْتَنا.. وَتَنْقُشُ أَسْمَاءَنَا عَلَى الصُّخُورِ شَاهِدَةٌ.. وَالجُدْرانُ تَحْكِي الرِّواياتِ اليَتِيمَةَ.. وَالْفُصُولُ تَقْرَعُ الرِّيحَ كَأَجْراسٍ.. لاحْتِمَالِ بُزُوغِ فَجْرٍ جَدِيدٍ.. مِنْ بَيْنِ الأَصَابِعِ، مِنْ خَلْفِ التِّلالِ.."، كل تلك المخاضات هي ترسبات الالتحام الشعوري بين الذات الشاعرة وبين البراني/ الخارجي، وذلك ما بعث التيه فيها، حتى أصبحت تعيش وهم الوجود " عَلَى نَاصِيَةِ جَسَدٍ تائِهٍ بَيْنَ الدُّرُوبِ.. لا عَزَاءَ لِقَلْبٍ حَافٍ، وَاجِفٍ.. لَمْ أَدْرِ أَنَّ القَلْبَ فِي لَظَاهُ...وَلِيمَةٌ بَيْنَ شَاهِدٍ وَمَشْهُود.. وَتَسْقُطُ الأَقْمَارُ سَكْرَى تَفُكُّ أَزْرَارَ التَّوَحُّدِ.. وَأَنَـــا أَتَوَضَّأُ.. فِي غَلَسِ المَسَافَاتِ اشْتِعَالًا.."، استمرّت الذات في حالة الاستلاب عبر مخاضات الزمن أعطت النصوص دافعًا للبحث عن منافذ يمكنها أن تواسي اغترابها، وتمنع ذوبانها التام في المجريات والمتغيرات، فنجد الشاعرة تفتح ممرات تسوق من خلالها دلالات تعطي إشارات على مراحل هدنة وسكينة فيها "وَزَمْهَرِيرُ الغَيْمِ فِرْدَوْسٌ.. يُمْطِرُ فِي فَمِ اللَّيْلِ .. بَرَاءَةَ وَقْتٍ لا يَجِيءُ ..وَأَذُوبُ مِلْءَ النَّشْوَةِ.. عَلَى ضَوْءِ شَمْعَةٍ فَاتِحَةٍ.. أيُّها المُسَافِرُ خَارِجَ أَدِيْمِ الكَوْنِ لا تَبًتَئِسْ…وأَقْطِفُ .. تَرَانِيْمَ بَحْرٍ..سَجْدَةً فِيْ غُرَّةِ الفَجْرِ !..يَقْصِمُ ظَهْرَ السَّاعَةِ.. وَتَهُبُّ الْإِجَابَاتُ ضَاحِكَةً.. كَيْفَ لَا .. وَأَنَا.. أُرَتِّلُ مِنْ تَفَاصِيلِكِ تَسَابِيحاً وَصَلَاةً.. أَهْوَاكَ.. يامَن بذِكْرِه يتَفًتَّحُ الزَّهْرُ ..وَعَلَى جِبينِهِ تَنْعَتِقُ شَمّسُ الفَجرِ .. يَــا مَارِجَ البَحْرَيْنِ، وَ أنَا أَبْحَثُ عَنِّي..هَذِهِ أَنا .. إذَا مَا مَقَامُ الحُبِّ غَيَّظَ ذَاتِيْ.. فِيْ رَحِمِ الرُؤَىْ.. وبَقيَّةُ العِطْرِ.. المُسَافِر شَهَقَاتٌ فِيْ وُجْدَانِيْ نَار.."

تعطينا الشاعرة في ديوانها مساحات تخييل لايمكن تجاوزها دون الخوض في الماورائيات التي تنتجها ضمن مساراتها سواء على المستوى البلاغي، أو التشكيلي، فقد نجحت في فرض منطقها المخصوص وجعلتنا نتبعها للنهاية دون ان نحيد درجة عن دوائرها التي رسمتها بدقة ومهنية وشعرية حداثية احترافية، مما يجعلها الان تقف وتشاهد منطقها وقد تقمص أوجهنا