بين القيد والتحرر
قراءة فلسفية في "دموع الشمس" لحياة قاصدي
أ.كمال لعرابي
12/8/20251 min read


بين القيد والتحرر: قراءة فلسفية في "دموع الشمس" لحياة قاصدي
بقلم: أ. كمال لعرابي
تطرح رواية دموع الشمس للكاتبة حياة قاصدي اسئلة فلسفية عميقة حول الوجود الانساني في مواجهة الاقدار القاسية. من خلال شخصية ليلى المحورية، نرى كيف تتشكل الهوية الانسانية عبر صراع مستمر مع الذات والمجتمع والقدر. ليلى ليست مجرد امرأة تعاني من زوج ظالم او حبيب خائن، بل هي تجسيد للذات الانسانية التي تعيد تعريف نفسها باستمرار رغم كل الانكسارات. رحلتها من زوجة مقهورة في بيت رفيق الى امرأة مطلقة تبحث عن حريتها، ثم الى عاشقة تحلم بحياة جديدة مع كريم، وصولا الى معلمة تستعيد استقلاليتها، كل هذا يؤكد ان الهوية ليست معطى ثابتا بل صيرورة مستمرة من التحول والبناء.
في قلب الرواية تكمن جدلية الحرية والقيد على مستويين متداخلين. على المستوى الفردي نجد رفيق سجين ماضيه المؤلم، فقد تعرض للاغتصاب في طفولته مما جعله يحمل جرحا عميقا حوله من ضحية الى جلاد. هذا التحول الدراماتيكي يطرح سؤالا فلسفيا محوريا حول طبيعة الشر، هل الانسان شرير بطبيعته ام ان الظروف هي التي تصنع الوحش؟ رفيق لم يختر ان يكون قاسيا مع ليلى، لكن عجزه عن التعافي من صدمته جعله يحول معاناته الى سلاح يوجهه ضد زوجته البريئة. هنا تكمن المفارقة الفلسفية العميقة، الضحية تصبح جلادا ليس لانها اختارت الشر بل لان الشر اختارها اولا. اما ليلى فهي تكسر قيود البيت والتقاليد لكنها تسقط في قيد اخر هو الحب. حبها لكريم الذي ولد في فضاء الحراك الشعبي كان يمثل لها الخلاص والحرية، لكن الواقع القاسي يفرض قيوده من جديد عندما تمنعه زوجته من الزواج بليلى. وكريم نفسه محاصر بين زوجة لا تحبه وحبيبة لا يستطيع الوصول اليها.
على المستوى الجماعي يتجلى الصراع بين الحرية والقيد في الحراك الشعبي الذي يمثل بحث الشعب الجزائري عن حريته وكرامته. القصبة العتيقة تصبح رمزا مزدوجا للأسر والتحرر في ان واحد، فأزقتها الضيقة تحبس الانفاس لكن سطوحها المطلة على البحر تمنح املا بالانفتاح والحرية. ثم يأتي الوباء ليفرض نوعا جديدا من القيود لم يكن احد يتوقعه، الحجر الصحي يحول العالم كله الى سجن كبير ويطرح سؤالا فلسفيا مربكا، ما معنى الحرية عندما يصبح الخروج من البيت تهديدا للحياة نفسها؟
تقدم الرواية تصورا فلسفيا عميقا للزمن من خلال تداخل ثلاثة ازمنة مختلفة. الزمن التاريخي الذي يمتد من الاستعمار الفرنسي مرورا بالحرب العالمية الثانية والعشرية السوداء وصولا الى الحراك الشعبي عام 2019، والزمن الشخصي الذي يتمثل في ذكريات ليلى المؤلمة وفي حقيبة الجدة التي تحمل ماضيا حيا لم يمت رغم مرور العقود، والزمن الوبائي الذي يمثل نوعا خاصا من الزمن المعلق حيث يتوقف العالم عن الحركة ويصبح الموت حاضرا في كل لحظة. الحجر الصحي يجمد الحياة ويجعل الناس يعيشون في زمن غريب لا هو بالماضي ولا هو بالمستقبل، انه زمن الانتظار والخوف والموت الجماعي الذي اطلقت عليه الرواية اسم زمن الجنائز.
الذاكرة في الرواية ليست مجرد استعادة للماضي بل هي فعل مقاومة ضد النسيان. حقيبة الجد محفوظ التي ظلت مخبوءة في سدة السطح لعقود طويلة تمثل الذاكرة الحية التي تنتظر اللحظة المناسبة لتفصح عن اسرارها. عندما تفتح ليلى الحقيبة في زمن الوباء لا تجد فيها مجرد ملابس عسكرية قديمة بل تجد تاريخا كاملا من التضحية والالم والحب. الجد الذي مات في الحرب العالمية الثانية وهو يقاتل في صفوف الجيش الفرنسي ضد المانيا يصبح رمزا للمفارقة التاريخية، الجزائريون الذين قاتلوا من اجل حرية فرنسا لم ينالوا حريتهم الخاصة الا بعد حرب تحرير دموية. هذا التداخل بين التاريخ الشخصي والتاريخ الجماعي يؤكد ان الفرد ليس جزيرة معزولة بل هو جزء من نسيج تاريخي واجتماعي اكبر.
الحب في الرواية يطرح كفلسفة وجودية معقدة. ليلى تعيش ثلاث تجارب مختلفة للحب، زواجها من رفيق الذي كان واجبا اجتماعيا اكثر منه حبا حقيقيا، وحبها لكريم الذي ولد في فضاء الحراك وكان يمثل لها الحلم بحياة جديدة، ثم حبها لذاتها واستقلاليتها بعد ان خذلها الرجلان. السؤال الفلسفي المحوري الذي تطرحه الرواية هو هل الحب خلاص ام وهم؟ بالنسبة لليلى كان الحب وهما في البداية عندما تزوجت رفيق معتقدة انها ستبني معه حياة سعيدة، ثم صار املا عندما وقعت في حب كريم، لكن الخلاص الحقيقي لم يأتها من الحب بل من تحررها من فكرة انها تحتاج الى رجل لتكون كاملة. هنا تكمن الفلسفة العميقة للرواية، الخلاص لا يأتي من الخارج بل من الداخل، من قرار الانسان ان يكون حرا رغم كل القيود.
قصص الحب الاخرى في الرواية تقدم تنويعات مختلفة على هذا الموضوع. محفوظ وزهرة يمثلان الحب الذي يتحدى الموت والحرب، فرغم موت محفوظ في ارض غريبة ودفنه في قبر مجهول ظلت زهرة وفية لذكراه طوال حياتها وحولت حقيبته الى مزار تلجا اليه كلما اشتاقت له. هذا النوع من الحب يطرح سؤالا فلسفيا عن معنى الوفاء، هل الوفاء للميت فضيلة ام سجن اخر يمنع الحي من مواصلة حياته؟ اما قصة عائشة الفرنسية واحمد الصحراوي فتقدم نموذجا للحب العابر للحدود والحضارات، عائشة التي تركت باريس لتعيش في واحة تاغيت مع الرجل الذي احبته تمثل الحب كخيار وجودي جذري، انها لم تتخل عن وطنها فقط بل عن كل نمط الحياة الذي عرفته وهذا يطرح سؤالا عن ماهية الوطن، هل الوطن هو المكان الذي ولدنا فيه ام المكان الذي نختار ان نعيش فيه؟
المعضلة الاخلاقية التي تواجهها ليلى مع رفيق تمثل واحدة من اعمق اللحظات الفلسفية في الرواية. عندما يكشف رفيق في رسالته الاخيرة قبل موته عن سر معاناته وعن كونه ضحية اغتصاب في طفولته تجد ليلى نفسها امام معضلة اخلاقية مربكة. كيف تتعامل مع رجل ظلمها لثلاثين عاما عندما تكتشف انه كان هو نفسه ضحية لظلم اكبر؟ هل تبرر معاناة الضحية تحوله الى جلاد؟ وهل يمكن ان نسامح من اذانا اذا فهمنا الاسباب العميقة لسلوكه؟ الرواية تقدم اجابة معقدة ومركبة، ليلى تسامح رفيق بعد موته لكنها لا تسامحه اثناء حياته. لماذا؟ لان الموت يكشف الحقيقة الكاملة ويضع نهاية للألم، الميت لا يستطيع ان يؤذيها مرة اخرى لكن الحي يمكن ان يكرر ايذاءه. المسامحة هنا ليست من اجل الاخر بل من اجل تحرير الذات من عبء الكراهية والحقد.
رفيق نفسه يمثل حالة فلسفية معقدة في تحليل الشر والخير. لقد تعرض لتجربتين صادمتين في طفولته، الاولى عندما اغتصبه رجل كهل كان يبدو طيبا ومحبوبا في الحي، والثانية عندما شاهد رجلا يمارس الجنس مع حيوان في المقبرة. هاتان التجربتان دمرتا نظرته الى الجنس والعلاقات الانسانية وجعلتاه يرى في كل علاقة حميمية نوعا من الحيوانية المقززة. تزوج مرغما لإرضاء المجتمع وتجنب تهمة الشذوذ، لكنه لم يستطع ان يكون زوجا حقيقيا لليلى لان الجنس بالنسبة له كان مرتبطا بالصدمة والاشمئزاز. هنا نرى كيف ان الصدمة النفسية يمكن ان تحول الانسان من ضحية الى جلاد دون ان يكون ذلك اختيارا واعيا. رفيق لم يختر ان يكون قاسيا لكنه لم يجد طريقة اخرى للتعامل مع الما الداخلي. عذابه لليلى كان في الحقيقة انعكاسا لعذابه الداخلي، كان يحاول ان يخرج من نفسه الوحش الذي زرعه فيه ذلك الرجل الكهل.
الموت في الرواية يحضر بقوة كحقيقة فلسفية لا مفر منها. هناك انواع مختلفة من الموت، الموت الجسدي كما في حالة محفوظ ورفيق وضحايا الوباء، والموت النفسي كما في حالة ليلى التي كانت تعيش كجثة متحركة في بيت رفيق، والموت الرمزي كما في موت احلام ليلى بالزواج من كريم، والموت الجماعي الذي يمثله الوباء. لكن الموت في الرواية ليس نهاية مطلقة بل هو جزء من دورة الحياة وفرصة لإعادة التفكير في معنى الوجود. موت رفيق مثلا يحرر ليلى من ماضيها ويمنحها فرصة للبدء من جديد، لكنه ايضا يجبرها على مواجهة حقيقة مؤلمة هي انها قضت ثلاثين عاما من عمرها مع رجل لم تفهمه حقا الا بعد موته.
الوباء في الرواية ليس مجرد حدث طارئ بل هو استعارة فلسفية عميقة. كورونا تكشف هشاشة الوجود الانساني وتجبر الناس على اعادة ترتيب اولوياتهم. ما كان يبدو مهما بالأمس اصبح تافها اليوم امام تهديد الموت المحدق. الوباء ايضا يكشف الحقائق المخفية، ففي زمن الحجر الصحي تخرج الاسرار من مخابئها كما خرجت حقيبة محفوظ من السدة وكما خرجت رسالة رفيق الاخيرة. الوباء يفرض نوعا من المساواة القسرية بين الناس، فالموت لا يفرق بين غني وفقير بين قوي وضعيف بين ظالم ومظلوم. هذه المساواة امام الموت تطرح سؤالا فلسفيا عن معنى الحياة، اذا كنا جميعا سنموت في النهاية فما الذي يجعل حياة انسان اكثر قيمة من حياة انسان اخر؟
العلاقة بين الجسد والروح تشكل ثنائية فلسفية مهمة في الرواية. رفيق يعاني من انفصال مؤلم بين جسده وروحه، جسده عاجز عن تحقيق ما تريده الروح او ما يفرضه المجتمع، وروحه معذبة بذكريات لا يمكن محوها. هذا الانفصال يجعله يعيش في حالة اغتراب دائم عن نفسه وعن العالم. اما ليلى فتعاني من نوع اخر من الانفصال، جسدها مهجور من رفيق الذي لا يلمسها ومشته لكريم الذي لا تستطيع الوصول اليه، لكن روحها تبحث عن شيء اعمق من مجرد الاشباع الجسدي، انها تبحث عن الحرية والكرامة والاعتراف. تحررها الحقيقي ياتي عندما تنفصل روحها عن حاجة الجسد للأخر وتكتشف انها قادرة على ان تكون كاملة بذاتها.
المكان في الرواية ليس مجرد خلفية للأحداث بل هو شخصية فلسفية قائمة بذاتها. القصبة العتيقة ترمز للأصالة والتاريخ لكنها ايضا سجن وحرية في ان واحد. ازقتها الضيقة تحبس الانفاس وتذكر بالقيود الاجتماعية لكن سطوحها المفتوحة على البحر تمنح الامل بالانفتاح والحرية. البيوت القديمة في القصبة ليست مجرد جدران بل هي خزانات للذاكرة الجماعية، كل حجر يحمل قصة وكل زاوية تحتفظ بسر. البحر يمثل الحرية المطلقة والامل والانفتاح على المجهول، لهذا يلتقي كريم وليلى قرب البحر تحت ضوء القمر، انه المكان الوحيد الذي يمكن ان يستوعب حبهما المستحيل. السطح يصبح مكان الكشف والحقيقة، هناك تفتح حقيبة محفوظ وهناك يحدث حلم ليلى العميق وهناك تلتقي العائلات في زمن الوباء.
التداخل بين التاريخ الشخصي والتاريخ الجماعي يشكل احد المحاور الفلسفية المهمة في الرواية. زواج ليلى المأساوي يحدث في سياق تاريخي اكبر هو ما بعد الاستعمار واثاره على المجتمع الجزائري، وحبها لكريم يولد في سياق الحراك الشعبي الذي يمثل لحظة تاريخية فارقة في البحث عن الحرية والكرامة، وحجرها مع رفيق يتزامن مع الحجر الصحي العالمي، وموت رفيق يحدث في زمن الوباء الذي يحصد الارواح في كل مكان. هذا التداخل يؤكد ان الفرد ليس جزيرة معزولة بل هو جزء من نسيج تاريخي واجتماعي اكبر، ومعاناته الشخصية لا يمكن فصلها عن المعاناة الجماعية للمجتمع الذي ينتمي اليه.
الحلم في الرواية يمثل بعدا ميتافيزيقيا مهما. حلم ليلى بجدها محفوظ ليس مجرد حلم عادي بل هو رحلة روحية عميقة تتجاوز حدود الزمان والمكان. في الحلم يظهر محفوظ كشاب في مقتبل العمر رغم مرور اكثر من سبعين عاما على موته، وهو يرتدي بدلته العسكرية التي عثرت عليها ليلى في الحقيبة. يمنحها منديلا اخضر ويخبرها انه سيحارب هنا وليس هناك، اي انه سيحارب من اجل حرية الجزائر وليس من اجل حرية فرنسا. هذا الحلم يمثل تواصلا بين الاجيال ورسالة من الماضي الى الحاضر. الموتى في الرواية ليسوا غائبين بل حاضرون في الذاكرة الجماعية وفي احلام الاحياء. الاحلام هنا ليست مجرد انعكاس للاوعي الشخصي بل هي وسيط بين عالم الواقع وعالم الميتافيزيقا.
قضية المرأة وتحررها تشكل محورا فلسفيا مركزيا في الرواية. نرى اربعة اجيال مختلفة من النساء كل جيل يمثل مرحلة في الوعي النسوي. باية الجدة تمثل المرأة التقليدية التي تقبل دورها كزوجة وام دون تمرد، زهرة تمثل الارملة الوفية للذكرى التي تحول حياتها الى مزار لزوج مات قبل عقود، ليلى تمثل المرأة المتمردة التي تبحث عن ذاتها وحريتها رغم كل العقبات، وكوثر الابنة تمثل الجيل الجديد الواعي الذي يطرح اسئلة جديدة ولا يقبل بالإجابات الجاهزة. السؤال الفلسفي المحوري هو هل يمكن للمرأة ان تحقق ذاتها دون رجل؟ الرواية تجيب بنعم لكن بعد رحلة طويلة من الالم والوعي. ليلى تكتشف في النهاية ان خلاصها لا يأتي من حب رجل بل من حبها لذاتها واستقلاليتها.
اللغة والصمت يشكلان ثنائية مهمة في الرواية. الصمت يحضر بقوة كشكل من اشكال القمع والكبت، رفيق يصمت عن اغتصابه طوال حياته ويحمل سره كلعنة تدمره من الداخل، وليلى تصمت عن معاناتها امام اطفالها لحمايتهم من الالم، ومحفوظ صامت في قبره المجهول بعيدا عن وطنه. لكن الكلام عندما يأتي يصبح فعل تحرر وخلاص. رسالة رفيق الاخيرة تحرره من عبء السر رغم انها جاءت متأخرة، ورواية ليلى لحكاية الحقيبة تعيد التاريخ المنسي الى الحياة. الكلام هنا ليس مجرد تواصل بل هو فعل وجودي يثبت الانسان في الحياة ويمنحه معنى.
في النهاية تطرح الرواية اسئلة جوهرية عن معنى الوجود الانساني. من نحن في مواجهة القدر؟ هل نحن مجرد ضحايا لظروف لا نتحكم فيها ام نحن صناع مصيرنا؟ هل الحرية ممكنة ام هي وهم نعيش من اجله؟ كيف نسامح من لا يستحق المغفرة؟ ما معنى الحياة عندما يحاصرنا الموت من كل جانب؟ هل يمكن للحب ان يكون خلاصا حقيقيا ام هو مجرد وهم اخر؟ الرواية لا تقدم اجابات جاهزة عن هذه الاسئلة بل تضع القارئ في مواجهة مباشرة معها. الاجابة الفلسفية التي يمكن استخلاصها هي اننا لسنا ضحايا الاقدار بل صناع معنى وجودنا. ليلى لا تنتظر الخلاص من رجل بل تخلق حريتها بنفسها، والوباء يوقف الحياة لكن الانسان يجد معنى حتى في الموت، والتاريخ لا يموت بل يتجدد في كل جيل كما تجدد في لحظة فتح حقيبة محفوظ.
دموع الشمس رواية وجودية بامتياز تضع الانسان امام اسئلته الكبرى دون ان تفرض عليه اجابات جاهزة. انها تدعوه للتأمل في وجوده وحريته وحبه وموته وتاريخه. انها رواية عن الالم والامل معا، عن الانكسار والنهوض، عن الموت والحياة. وفي النهاية تبقى الرسالة الاعمق ان الانسان قادر على خلق معنى لوجوده حتى في اقسى الظروف، وان الحرية ليست معطى بل هي صراع يومي مستمر، وان الحب الحقيقي يبدا من حب الذات وليس من البحث عن نصف اخر يكملنا.
